عند الحديث عن النحت والتجارب النحتية في الساحة التشكيلية السعودية فإننا نتحدث عن فعل تشكيلي ظل التحفظ عليه طويلاً حتى أنه تأخر عن الركب التشكيلي المحلي بمراحل , وهذا ربما يعود لعدة أسباب منها صعوبة الخامة , وعدم وجود دراسة أكاديمية لهذا الجانب من الفنون التشكيلية ...
ولكن رغم قلة الممارسين في هذا المجال إلا أنه هناك تجارب شابه في هذا المجال تستحق التوقف عندها والنظر إلى منجزاتها ... ومن هذه التجارب الجادة التي أثبت تواجدها بتمكن واقتدار على المستوى المحلي بل ومثلت التشكيل السعودي في المحافل الخارجية أنه الفنان محمد الثقفي ذلك الفنان الذي نشأ وتربى في بيئة جبلية صخرية ذات تكوينات ربانية كاملة الصياغة والبنيان , وهذا الذي جعل حساسيته البصرية عالية وذواقة لمكامن الجمال, فكانت نشأته ودراسته في قرية جبلية بجنوب الطائف , اكتملت بها مواضع الجمال الطبيعي من تكوينات صخرية إلى طبيعة نباتيه وأشجار باسقة , وهو الذي أثر على شخصيته الفنية فيما بعد , وقد أكمل دراسته بعد الثانوي في المجال الفني بكلية المعلمين قسم التربية الفنية ,وبدأت مشاركاته الفنية بالمعارض التشكيلية المتنوعة الجماعية وذلك ابتداء من العام 1420هـ , وكان من أبرز المشاركات التي قدمها الفنان المعرض المصاحب للأيام السعودية في مصر , والذي أشاد عدد من النقاد والفنانين والمسئولين بتجربته , والفنان محمد الثقفي شارك في العديد من المعارض الجماعية وحصل على عدد من الجوائز والشهادات والدورات التشكيلية , وهو عضو مؤسس في جماعة تعاكظ التشكيلية بالطائف ...
وعند النظر في مجمل أعمال الفنان المبدع محمد الثقفي فإننا ننظر إلى منظومة فكرية ثلاثية الأبعاد ... امتازت بالبعد الفلسفي الذي حضر جنباً إلى جنب مع البعد الجمالي أو الفني بالإضافة إلى البعد الموضوعي , فهو بحق جعل الحجر ينطق بعبارات الجمال في رشاقة واتزان ,برؤية فكرية ناضجة تنم عن المحمول الثقافي الذي يختزله بين جنباته فرغم الصمت الذي يغلب على شخصيته إلا أنه يمتلك نظرة إبداعية وإبتكارية ساعدته على خلق جمل الجمال من خامة صعبة التطويع إلا بيد مبدع لاطفها بأنامله فطاوعته وسلمت له مكامن الجمال التي أبرزها بوعي داحضاً كل مكامن الصدفة , وبفن راق مبعداً كل ما يوصم بالصنعة والحرفة المبتذلة فكان إحساسه حاضراً بعد حضور فلسفته التي ميزت كل عمل , فهو تعامل مع الخامة ولم ينساق وراء الخامة , وتخاطب معها وعرف مفاتيحها , ولم تكن تلك الصماء التي يمارس عليها القمع بأزاميله ومعداته , بل تحاور معها وصبر على صلابتها فأعطته كما أعطاها , فكانت أعماله مجموعة رؤى فكرية أكثر منها تحفاً جمالية ( كما نرى عند العديد من النحاتين التي سيطرت عليهم الخامة وانساقوا لطبيعة الحجر الذي جعل للصدفة الحظ الأكبر في تشكيله ...)
ومن المميز في أعمال محمد الحس التجريبي العالي والذي يتمثل في انفتاحه على العديد من الخامات وتوظيفه لها بشكل واع ومتناسق فلم يكن نشازاً أو غير معبر بل وظفت تلك الخامات ضمن سياق العمل .وبما يخدم فكرته ....
وكأي فنان حقيقي صادق مع فنه وأدواته لقد مر المنجز التشكيلي لدى محمد بعدة مراحل تطور فيها العمل ونما المنجز وتراكمت الخبرات حتى وصل إلى مرحلة من النضج والتميز وهو لا يزال يعمل ويبحث ويجرب ,وهي مراحل متصلة بعضها بالبعض ومتسلسلة بشكل بنائي ساهم في بناء شخصية الفنان التشكيلية والتي اتضحت من خلال منجزه , وهذه المراحل يمكن أن تتلخص فيما يلي :
البدايات وتوجيه الطاقات
بدء الفنان محمد الثقفي علاقته بالعمل التشكيلي بشكل منتظم من خلال أعمال مسطحة شارك بها في العديد من المعارض وكانت مواضيعه تدور حول مواضيع إنسانية وواقعية, وتدرج في العمل التشكيلي بين الأعمال المسطحة والأعمال الشبه مسطحة مستخدماً خامات منوعة مثل الخشب والجبس , وأستمر العمل بين المسطح وشبه المسطح في العديد من الأعمال , ولكنه أبدى انسجاما واضح مع خامة الجبس حفراً وتلويناً , وكان إحساسه واضح ودقيق في التمايز بين المستويات التي كان يحدثها على سطح الجبس , وهو الذي قاده بهمته العالية إلى تحدٍ جديد مع الخامة وكانت تجربته الأولى في النحت والتي قدمت بشكل عمل تشكيلي منظم , وكان ذلك في أحد المعارض الجماعية , حيث قدم عملين أحدهما شبه مسطح والآخر مجسم , وكانت الإشادة والانبهار من العمل المجسم , وقد أشار عليه العديد من الفنانين والنقاد بأن إحساسه في العمل المجسم أكثر إبهاراً ووصولا من العمل المسطح , وكان من أبرز من أشار عليه بذلك الفنان طه الصبان ...
التصاميم الحرة
وفي هذه المرحلة أهتم الفنان بتنمية الجانب المهاري والتقني لديه وذلك من خلال عمله على تصاميم حرة ومجردة ذات أصول إنسانية وعضوية في علاقة وتكوينات بسيطة , فأهتم بالجانب المهاري والتقني والتعرف على إمكانيات الخامات والتجريب في أنواع الأحجار , وكان ذلك على حساب الجانب الموضوعي الذي قل الاهتمام به مقارنة بالجانب المهاري رغم أن تصاميمه كانت جيدة ولكن التطور الملحوظ في هذا المرحلة كان في الجانب التقني والمهاري , وكانت بالفعل مرحلة إنجاز وعمل وتميزت بغزارة في الإنتاج ..., وتعد هذه المرحلة مرحلة النضج التقني للفنان , وتصميماته في هذه المرحلة لازالت محسوبة ومدروسة وأقل جرأة وتقترب من السيطرة الذهنية وغياب الاهتمام بالموضوعية إلى حد ما.
الحضور الأسطوري
وبعد أن اتضحت القدرة التقنية العالية التي وصل أليها الفنان ,من تمكنه من أدواته وإدراكه الواضح والعالي للكتلة والفراغ والعلاقات المتبادلة بينهما والنسب الجمالية التي تحققت في نظرته ,أهتم في هذه المرحلة بالجانب الموضوعي الذي أستطاع أن يطوره من خلال قراءاته وتوسيع محموله الثقافي والتواجد في المناسبات والأحداث الثقافية وهو الذي أثر بدوره وأثرى منجزه ,ولعل أبرز ما ميز المنجز في هذه المرحلة هو الحضور الموضوعي الذي أتضح جنباً إلى جنب مع الجانب التقني والجانب الفني , وكانت موضوعات الفترة تدور حول موضوعات فكرية وثقافية ولعل أبرزها الأسطورة والتي حضرت في أكثر من عمل منها (منحوتة طائر النار ) و( ومنحوتة قلقامش ) , و هذه المرحلة تعد مرحلة النضج الموضوعي في أعمال الثقفي , كما تميزت تصاميم هذه المرحلة بالجرأة والانطلاق وإن كانت لا تزال تأخذ الشكل المتكور أو القريب منه , وخطوط التصاميم أقرب للانحناء منها إلى الخطوط المستقيمة والجريئة .
الأنثى و الحجر
ويظهر في هذه المرحلة تمكن الفنان من الجانبين التقني والجانب الموضوعي , وحضور النظرة الفنية لديه بشكل أكثر وعياً,وذلك من خلال التراكم المعرفي والمهاري والفني الذي سجله من المراحل السابقة , كما أن الحضور الإنساني والقضايا الإنسانية كانت موجودة (وإن كان بشكل ملخص ومختزل) بل أتخذ منه الفنان مجالاً لبحثه التشكيلي والذي مثله في العديد من المنحوتات وخلال جميع مراحل العمل ,ولكن ظهر في المرحلة الأخيرة من أعماله العناية بالتصميمات الأنثوية وحضور المرأة بشكل مجرد في أكثر من عمل بشكل متميز وراق وأنيق , فلم يتوقف عند الجانب الإنساني لدى الأنثى من خلال عمله ( أمومة ) بل ذهب يتلمس مفاتن الحجر ويقدمه بانسياب واتساق منتصباً بشموخ واستطالة مثل عمل (تلاشي أنثى ), وأضفى عليه الكثير من الجمال بالاكسسورات التي أضافها برقة ومحسوبية فكانت مكملة لحساسية وشفافية منحوتاته , ولعل ما ميز هذه المرحلة التصاميم الجريئة والمنفتحة وخطوطه التي أخذت الكثير من الاستطالة فلم تعد منحوتاته ذات شكل كروي بل أصبحت ذات أطوال وأحجام مستطيلة تقريبا , بالإضافة إلى إدخال أكثر من وسيط إلى الحجر في تجانس وتمكن واضح ....
وفي الختام هذه لمحة لمراحل العمل النحتي لدى الفنان الثقفي والذي ظهرت شخصيته النحتية في البروز من خلال منجز ناضج تشكيلياً وفكريا فهي بحق تجربة شابة تستحق الوقوف عندها وتأملها والتفاعل معها, كما أتمنى للفنان المبدع المزيد من التطور والرقي بعمله والحضور المتميز على كل الأصعدة ومن خلال تجارب متنوعة استكمالا لبحثه التشكيلي الجاد ...
فيصل خالد الخديدي
فنان تشكيلي المشرف العام على "جماعة تعاكظ التشكيلية"
الأحد 9/1/1428هـ
Bookmarks